Last updated on 3 Сен 2019
واجب أهل العلم والدعوة
ولهذا فإن أهل العلم الذين ينقلون الشريعة ، ويحفظون معاني القرآن ، ويحفظون حدود السنة ، هم في الحقيقة الورثة للنبي – صلى الله عليه وسلم – كما قال عليه الصلاة والسلام : « إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا ، وَلَا دِرْهَمًا ، وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ »
وبين – جل وعلا – لنبيه – صلى الله عليه وسلم – أن خاصة عباده هم الذين يدعون معه على بصيرة ، ويصبرون على الدعوة إلى الله وحده لا شريك له ، فقال له ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾ [ يوسف : 108 ] ، فالذين ورثوا النبي – صلى الله عليه وسلم – هم العلماء ، والذين ورثوا الدعوة هم الدعاة ، وصار بمقتضى ذلك العلماء هم الدعاة على الحقيقة ، وبقدر اجتهاد المرء في العلم يكون ازدياده في الدعوة إلى الله – جل وعلا – .
الدعوة ليست هي الموعظة فحسب
والدعوة ليست هي الموعظة فحسب ، بل نشر العلم دعوة ، وتبصير الناس بالحق دعوة ، والتبيان لما يحتاجه الناس في أمر عقيدتهم دعوة ، وأمر العامة دعوة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة ، وبيان حكمه وآدابه ، وما ينبغي دعوة ، وهكذا .
ولذلك كان الدعاة في الحقيقة هم العلماء ، وبقدر ازدياد المرء من العلم يكون نصيبه من الدعوة ، أما من دعا وهو ليس متحليًّا بالعلم ، فإنه أشبه ما يكون بالوعَّاظ والقصاص ، الذين يُرقّقون القلوب ، لكنهم ليسوا على إرث كبير من شريعة محمد – عليه الصلاة والسلام – .
والدعوة واجبات أوجبها الله – جل وعلا – عليهم ، لا بد أن يلتزموا بها
الواجب على أهل الدعوة
أولًا : أن يكونوا أهل خشية من الله
أولًا : أن يكونوا أهل خشية من الله ، لأن خاصة عباده – الذين هم الأنبياء والعلماء – هم الذين يتحلون بهذه الخشية ، قال – جل وعلا – في وصف النبيين ، ومن ورثهم ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [ الأنبياء : 90 ] ، وقال – جل وعلا – ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [ فاطر : 28 ] .
فالعلماء هم أهل الرَّغَب والرَّهَب ، وأهل الخشية ، والذي يأخذ العلم بلا رغب ورهب من الله ، وخشية منه – سبحانه – فإنه يُخشى عليه ، ولهذا كانت الملائكة في السماء إذا سمعت الوحي من الله جل وعلا – ضربت بأجنحتها خُضْعَانًا لقول الرب – جل وعلا
فالواجب على أهل العلم والدعوة أن تكون أخص صفاتهم الخوف من الله – جل وعلا – والخشية منه –سبحانه – والاستعداد للقائه ، فيما يتكلمون به ، أو يعملونه ، سرًّا وعلنًا ، وهذا هو الذي ينبغي على كل من انتسب إلى العلم ، أو إلى طلبه ، أو إلى الدعوة إلى الله – جل وعلا – .
فإذا عظُمت الخشية ، وعظم الرغب والرهب ، استقام اللسان ، فالمسلم ليس بفاحش ، ولا سباب ، ولا بذيء ، يحفظ حق الله – جل وعلا – ويحفظ حق العباد ، كما جاء في وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – للمؤمن حيث قال : « ليس المؤمن بالطعَّان ، ولا اللعَّان ، ولا الفاحش ، ولا البذيء
ثانيا : أن يكونوا من أهل الإخلاص
ثانيا : أن يكونوا من أهل الإخلاص ، وعبادة الله لا شريك له ، لأن الإخلاص ، وعبادة الله وحده لا شريك له ، هي أخص صفات عمل الأنبياء – عليهم صلوات الله وسلامه – ولهذا قال الله لنبيه ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ الزمر : 65 ] ، فالإخلاص في القول والعمل والاعتقاد ، من أعظم الواجبات .
والإخلاص يجب أن يتفقده المرء في نفسه ، يتفقده في أقواله وأعماله ، لأن المرء قد يريد بعمله شيئا من الدنيا ، إما لشُهرة ، أو لظهور ، أو لصرف وجوه الناس إليه ، أو أن يكون قويًّا عند الناس جريئا في قول الحق ، وهو ليس بمخلص في ذلك ، أو أن يكون عنده غيرة في الظاهر ، لكنه يعلم من نفسه في الباطن أنه ليس بمخلص في ذلك .
ولهذا كان الإخلاص لله ، وحده لا شريك له في جميع الأعمال ، من أخص صفات أهل العلم والدعوة ، ومن واجباتهم التي أوجب الله عليهم أن يتحلوا بها .
ثالثا : أن يكونوا متواضعين للعلم
ثالثا : أن يكونوا متواضعين للعلم ، راغبين في الازدياد منه ، فأهل العلم متفاوتون في رُتبهم في العلم ، وفي رتبهم في بذل العلم ، وفي الدعوة .
والواجب أن يسعى جميع أهل العلم إلى الزيادة منه ، فلا يقول أحدهم : قد اكتفينا من العلم والآن أوان الدعوة . ثم يكف عن طلب الزيادة في العلم .
وقد كان الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – كثير الرحلات في طلب العلم ، وكانت رحلاته هذه نتيجة وَلَعِهِ بالعلم ، والطَّلَب ، وكان يرى المحابر بأيدي طلبة العلم فيقول : هذه سُرُج الإسلام . وكان هو يحمل المحبرة عَلَى كبر سِنّه ، فقال له رجل إلى متى با أبا عَبْد اللَّهِ ؟ فَقَالَ : المحبرة إلى المقبرة
فهذا مع كونه إمامًا ، يسعى الناس إليه لطلب العلم ، لم يقل : أنا اكتفيت من تحصيل العلم ، والآن أدعوا وأعمل وأُدَرّس . لكنه استمر في طلب العلم ، وهذا هو منهج العلماء الربانيين
وازدياد العلم ليس معناه أن يكتفي المرء بتعليم نفسه ، بل عليه أن يتعلم ، ويُعلّم إخوانه وأبناءه ، ومعنى ذلك أنه لا يترفع عن أخذ العلم عمّن صغُر عنه ، سنًّا أو قدرًا ، لأن العلم ضالة المؤمن ، فالهدهد قد جاء سليمان –عليه السلام – بعلم لم يُحط به سليمان ، قال ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [ النمل : 22 ] .
رابعا : أن يبينوا الحق ولا يكتموه
رابعا : أن يبينوا الحق ولا يكتموه ، لأن الله – جل وعلا – أخذ الميثاق على أهل العلم ، وعلى أهل الكتاب بذلك ، وهذا ظاهر في عدة آيات ، منها قوله – تعالى – ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [ آل عمران : 187 ] .
فواجب أهل العلم والدعوة البيان ، لكن البيان إنما يكون بحسب المصلحة الراجحة ، ولذلك جاءت الشريعة بقواعد محكمة في مسألة البيان ، لأن البيان والإيضاح يجب أن يكون على وفق المصلحة الراجحة من ذلك وبقدرها ، فقد يكون الحق حقًّا في نفسه ، لكن يؤخَّر لمصلحة راجحة ، كما فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – في تأخير بعض الشرائع من مكة إلى المدينة ، ومن أول العهد المدني إلى آخره
وقد كان – عليه الصلاة والسلام – أول ما جاء المدينة يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه ، وهذا لأجل تحقيق المصلحة
وأبو هريرة – رضي الله عنه – كانت عنده أحاديث ، من أحاديث الفتن والملاحم ، وبعض أخبار الخلفاء فكتمها ، ثم أخبر بها بعد زوال المانع ، حتى لا يضيع العلم الموجود في هذه الأحاديث .
والإمام أحمد حذف من مسنده الأحاديث المتعلقة بالفتن التي تخص الولاة والسلاطين ونحو ذلك ، حتى لا يأخذها مَن لا يفقه في الأحكام ، فيجعل ذلك وسيلة للخروج عن النصوص المحكمات في الشريعة .
فالشريعة فيها قواعد شرعية عظيمة ، دلت عليها النصوص من الآيات والأحاديث ، وكلام الأئمة ، لا بد أن تُرعى فيما يقوله أهل العلم ، فليس كلام أهل العلم مقتصرًا على النظر في الأدلة من حيث هي ، أعني بالأدلة القرآن والسنة ، ليس بمعناها الواسع عند الأصوليين ، وإنما ينظر إلى الأدلة التي منها القواعد الشرعية التي تحكم ذلك .
ومن أمثلة الأدلة التي تُرعى عند البيان والإيضاح ، ألا يترتب على القول مفسدة أكبر ، لأن درء المفاسد مُقدّم على جَلب المصالح ، ولأن القاعدة الشرعية تقول : ارتكاب أدنى المفسدتين ، لتفويت أعلاهما مطلوب شرعًا .
وذلك مما يبين ما يصير إليه أهل العلم ، والفرق بين كلامهم ، وكلام المتعجلين في المسائل ، لأن رعاية الشريعة ليست هي رعاية البيان ، دون نظر في جلب المصالح ، ودرء المفاسد .
فإذا كان العالم يرى أن في بعض البيان ما قد يترتب عليه بعض المفاسد ، فإن تأخير البيان في مثل هذه الحالة متعين ، وأما قول الأصوليين : لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . فهذا بضابطه المذكور ، وهو أن لا يترتب على ذلك مفسدة ، لهذا تجد أن فعل العلماء – من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام – مبنيّ على هذا في أقوالهم وأعمالهم ، وهذا له شواهد ، وله أدلة كثيرة ، يضيق المقام عن ذكرها .
خامسا : أن يكون بينهم نصح
خامسا : أن يكون بينهم نصح ، وأن يكون بينهم تعاون ، لأن الشريعة جاءت بالتعاون على البر والتقوى ، قال – تعالى – ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [ المائدة : 2 ] ، فأهل العلم والدعوة ربما يبذلون من أوقاتهم ، الليل والنهار ، لإصلاح العباد ، هذا مع أننا نعلم أنهم ليسوا معصومين في أقوالهم ، أو أعمالهم ، بل هم يتحرون الصواب الذي يوافق الشرع ، فقد يكون عندهم نقص ، لكنهم بالنصيحة يكمل بعضهم بعضا .
ولهذا كان من واجبات أهل العلم والدعوة أن يتعاونوا فيما بينهم ، على الحق والهدى ، وأن يجتنبوا أن يقدح بعضهم في بعض ، ما داموا على عقيدة واحدة ، فالاجتهادات تختلف فيها الأنظار
فإذا تعاونوا فيما بينهم على الخير والهدى مشت السفينة وسلموا جميعا ، فكان من الواجب على أهل العلم والدعوة أن يتناصحوا فيما بينهم ، وأن يُنصف بعضهم بعضًا ، فالإنصاف أمر مطلوب ، ولهذا قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله – في مقدمة كتاب “القواعد”([8]) : والمنصف من اغتفر قليل خطإ المرء في كثير صوابه
لكن لا يُترك من أخطأ ، بل علينا أن نبيَن له الصواب ، وننصحه نُصحا معتمدا على الأدلة ، ليس مبنيا على الهوى .
سادسا : أن يتحَرَّوا السنة
سادسا : أن يتحَرَّوا السنة ، وطريقة السلف الصالح ، وأن يبتعدوا عن الأهواء ، ما صغُر منها ، وما عظُم ، وهذا واجب عظيم ، يجب أن يتحراه جميع المسلمين ، لأن السلامة في السنة ، وفي طريقة السلف ، السلامة في خصال الفرقة الناجية ، السلامة في النظر إلى ما كان عليه السلف الصالح ، في أقوالهم وأعمالهم واعتقاداتهم ، في هديهم ، وفي تعاملهم مع بعضهم ، وفي تعاملاتهم مع ولاة أمورهم ، في تعاملهم مع علمائهم ، في تعالمهم مع الموافق ، ومع المخالف ، في تعاملهم مع أهل الأهواء .
هذا هو الكمال ، لأن الله – جل وعلا – أثنى على سلف هذه الأمة – وهم الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين – والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال : « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » ([9]) .
فإذًا من الواجبات المتأكدة ، السعي في السلامة من الأهواء ، ليس في حال طالب العلم ، والساعي في الدعوة في نفسه فقط ، بل أيضًا في الناس وفيما يُقرّه فيهم ، وفيما يكون عليه في أقواله وأعماله .
فالأهواء المختلفة التي لا توافق السنة ، ولا توافق هدي السلف ، يجب أن تُرَدَّ على من جاء بها ، صغيرًا كان أو كبيرًا ، لأنه إن لم يُحمَ حِمى الإسلام والسنة ، وهدي السلف ، من أهل العلم والدعوة فإن النهاية تكون غير محمودة
وما انتشرت الأهواء إلا بهذا السبب ، يعني بسبب التخاذل عن بيان الحق والسنة ، وعن التعاون في نُصرة طريقة السلف الصالح – رضوان الله عليهم – .
سابعا : أن يكونوا قدوة للناس
سابعا : أن يكونوا قدوة للناس في ألا يَسْتَخِفَّهم أحد ، قال الله – جل وعلا – لنبيه ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ([10]) الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [ الروم : 60 ] ، فمن صفات الذين ورثوا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – أنهم لا يُستخفَّون ، لا يستخفّهم العدو ، لا يستخفّهم الذي الذين لا يوقنون ، أو الذين ليسوا على بصيرة ، بل هم أهل سداد في الرأي ، وفي القول وفي العمل ، وليسوا بعُرضة للاستخفاف .
ولهذا جاءت النصوص بمنع الاستخفاف ، وبذمّه ، وبذمّ أهله ، والله – جل وعلا – يقول ﴿ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [ الأحقاف : 35 ] وقال ﴿ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ وقال أيضًا ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [ الفرقان : 63 ] بالمعنى العام للمشي ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال : « والله ليتمّنَّ هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموتَ ، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون
واليوم يواجه أهل الإسلام أنواعا من القيل والقال والتحديات ، بل والمصائب والمحن التي تمر بالأمة ، فهل نكون طُعْمة للذين لا يوقنون من أنواع الكفار ، فيستخفوننا بإذهاب بيضة الإسلام ، وإذهاب قوة أهل الحق ؟
يجب أن يكون المسلمون جميعًا تابعين لعلمائهم ، لألا يستخفهم الذين لا يوقنون ، في الأقوال ، أو في الأفعال ، أو في التصرفات ، لأن الأمة قد ضعُفت من داخلها ، وصار بأسها بينها ، فضعفت عن مواجهة الأعداء ، فإذا قويت وتكاتفت فستقوى على مواجهة أعدائها .
ولهذا تجدون اليوم هجمة كبيرة على الإسلام والمسلمين ، تارة بالتصريح ، وتارة بغير التصريح ، لكي يختلف المؤمنون والمسلمون فيما بينهم ، وتقع الاضطرابات في بلادهم ، ولكي يطعن بعضهم في بعض ، ولكي يضطربوا في تصرفاتهم ، والواجب النظر في قوله –تعالى – ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ ، وأمامنا مثلان عظيمان :
المثل الأول : نوح عليه السلام ، وهو أول أولي العزم من الرسل ، مكث في قومه قرابة ألف سنة ، قال –تعالى – ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [ العنكبوت : 14 – 15 ] ، ومع هذا قال الله –جل وعلا – ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [ هود : 40 ] ، إما اثنا عشر ، أو كذا وعشرون ، وأكثر الأقوال على أنهم كانوا ثلاثة وسبعين ، ما بين رجل وامرأة .
لكن الشأن ليس في النتائج ، الشأن في أن يسير أهل الرسالة ، ومن ورثهم من أهل العلم والدعوة ، على منهج النبي –صلى الله عليه وسلم – أما النتائج فعلمها عند الله –سبحانه وتعالى – هو القائل ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [ البقرة : 272 ] فهذا مثل طويل في الزمن ، فيمن بذل وبذل ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ﴾ [ نوح : 5 – 6 ] ، وقال أيضًا ﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ [ نوح : 8 – 9 ] .
فقد بذل كل ما يسر الله له من الوسائل ، لكن الهدى من عند الله ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [ البقرة : 272 ] ، فلم يستعجل ، ولكنه صبر ، قال –تعالى – ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [ الأحقاف : 35 ] .
والمثل الثاني : محمد – عليه الصلاة والسلام – الذي هو أقل الأنبياء زمنًا ، انظر إلى سيرته في الثلاثَ عشرةَ سنة الأولى ، ما آمن معه إلا قليل ، ثم لما ذهب إلى المدينة ازدادوا ، ففي الست سنوات الأولى في المدينة – يعني إلى صلح الحديبية – كان الذين أسلموا أيضًا قليلين .
لكن بعد السنة السادسة – وهي سنة الفتح ، وهي السنة التي تم فيها صلح الحديبية – إلى وفاته – عليه الصلاة والسلام – دخل الناس في دين الله أفواجًا .
فإذًا الأمور بيد الله – جل وعلا – يُمضيها كيف يشاء ، لكن الشأن في أهل العلم ، وأهل الدعوة أن يوافقوا مقتضى الأمر الإلهي ، ومقتضى السنة ، سواء رأوا النتائج ، أم لم يروا .
فالمهم أن يسيروا على الصراط المستقيم ، الذي كان عليه السلف وأهل العلم ، ويجب عليم أن لا يسيروا وفق الأهواء التي يشتهيها الناس .
أسأل الله –جل وعلا – أن ينفع بهذه الكلمات ، وأوصي نفسي والمسلمين بتقوى الله – جل وعلا – والجِدّ في العلم والعمل ، والبذل في الخير ، والتعاون على البر والتقوى ، وأن نكون مفاتيح للخير ، مغاليق للشر ، بحسب استطاعتنا ، إنه –سبحانه – ولي الصالحين .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ، ولمن له حق علينا ، ووفّق ولاة أمورنا لما فيه رضاك ، واجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى .
هذا ونسألك بأسمائك الحسنى ، وصفاتك العُلى ، أن تنصر الإسلام والمسلمين ، وأن تذل الشرك والمشركين ، وأن تجعل العاقبة للمتقين ، وأن تعلي للحق منارا ، وأن تخمد للباطل نارًا ، إنك على كل شيء قدير ، وآخر دعوانا : أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
وحالي وحال إخواني ينطبق عليه قول الشاعر([12]) :
لا خيلَ عندَك تهديها ولا مالُ